Thursday, 8 March 2012
حكاية رجل في تاريخ مدينة
(في عصر 15 تشرين الثاني 1914 خرج الحبوبي من النجف في موكب يصحبه جماعة من اصحابه، و كان قد تقلّد سيفه و الطبول تدق أمامه. و بعد نزوله في كثير من المدن و العشائر وصل الناصرية في منتصف كانون الثاني 1915) (1). و قد غادر النجف مع السيد الحبوبي فتى لم يتجاوز السادسة عشر لينتهي به المطاف في الناصرية المدينة الحديثة المنشأ نسبيا انذاك فيختارها مستقرا له. و لكن لنتمهّل قليلا فسيرة هذا الفتى لا تبدأ في الناصرية. أبصر محمد جواد مرزا علي النور في النجف بين 1898 او 1899 و نشأ يتيما بعد فقده لوالده و لم يتجاوز عمره السنتين بعد ليتكفل عمّه بتربيته و سافرت أمه الى أهلها في الناصرية. نشأ في أجواء المدينة الدينية المحافظة وتعلّم القراءة و الكتابة في كتاتيبها و قد ساعدته بيئة النجف على تنمية اهتماماته الثقافية و بالاخص في تذوق الشعر العربي وتركت أثرها في شخصيته عبر العقود اللاحقة بالرغم من تعليمه البسيط. وكذلك أعتقد بأن الحس الوطني الذي تجلى لديه في الثلاثينات و الاربعينيات من القرن الماضي أنما تعود جذوره الى طفولته في النجف ومناخها السياسي و الاجتماعي في تلك الفترة. فالعقد الاول من القرن المنصرم شهد ثورة المشروطة الشهيرة و التي بالرغم من كونها شأنا ايرانيا داخليا الا ان النجف كانت مسرح النزاع السياسي و الفكري بين تياري المشروطة و المستبدة و قاد الصراع انذاك علماء الدين و المراجع في حوزة النجف و تركت ثورة المشروطة بصماتها في فكر مجموعة من الشبّان الذين تتلمذوا في تلك الحلقات الدينية من امثال محمد باقر الشبيبي و علي الشرقي و الجواهري لاحقا و الذين بالرغم من دراساتهم الدينية التقليدية في النجف برزوا كرموز وطنية لا كعلماء دين.
و بعد و صول الشاب محمد جواد الى الناصرية مع السيدمحمد سعيد الحبوبي تضاربت الاراء حول مشاركته في حركة الجهاد ضد الانكليزفي البصرة(2) فيميل البعض الى عدم ذهابه و بقائه في الناصرية و البعض الاخر يؤكد مشاركته في معركة الشعيبة و العودة الى الناصرية بعد أن لحقت الهزيمة بالثوار حيث نزل السيد في بيوت ال العضاض (و كما يعرفون بالسادة العضاعضة)و توفي و غسل كفنه هناك ثم نقل جثمانه و دفن في النجف. و لكن من المتفق عليه أن الفتى محمد جواد لم يعد الى النجف وانما أستقر في الناصرية بعد أن التقى بوالدته التي تزوجت و توفي زوجها الثاني و كان لها من ذلك الزواج بنتين و قد تكفّل باعالة عائلته و بزواج أختيه لاحقا(3).
بدأ الشاب محمد جواد عمله كبائع و صاحب ل(بسطه) صغيرة أمام دكان الحاج رشيد غنّاوي في محلة السوك. بدأت حالته المادية بالتحسن شيئا فشيئا و امتهن بيع الاقمشة و انتقل الى محله الخاص في قيصرية القماشين و الخياطين في محلة السوك و في ذلك الوقت اكتسب لقب القمّاش في اواخر العشرينيات او بداية الثلاثينيات. و في ذلك الحين تزوج و رزق بولد أسماه عبدالرزّاق (4) و من حينها بدأ يعرف بكنيته أبو رزّاق. لم يدم هذا الزواج طويلا بسبب خلافات عائلية و انتهى بالطلاق. و في منتصف الثلاثينيات قرر أن يتزوج ثانية و في هذه المرّة تقدّم لخطبة السيدة نعيمة بنت الحاج رشيد غنّاوي (5) من أخيها الأكبر الحاج مجيد رشيد غنّاوي(6) و قد توسط في ذلك الزواج الحاج كامل الخياط و قد ذهبت والدته (والدة الحاج كامل الخياط) للتمهيد بخطبتها اولا و مما سهّل ذلك الامر ايضا هو أن محمد رشيد اخ الحاج مجيد رشيد و الحاجة نعيمة رشيد كان صانعا يتعلم مهنة الخياطة لدى الحاج كامل الخياط و كان بذلك صديقا للشاب محمد جواد أيضا. و من الجدير بالذكر ان محمد رشيد الخياط اصبح في فترة لاحقة من أشهر خياطي مدينة الناصرية و كان محله في شارع محلة السوك مقابل تجهيزات اللواء و بجوار محل الخياط الشهير عباس توفيق.
و هنا اود الاشارة الى المرحوم رشيد غنّاوي و الملقب برشيد التتنجي (حيث كان بائعا للتبغ) و أصله من بغداد قد أنتقل الى الناصرية في أواخر القرن التاسع عشر و كانت سمعته طيبة جدا بين أبناء الناصرية و من القصص الجديرة بالذكر عن هذا الرجل كان يتمتع بعلاقة خاصة جدا بأبناء طائفة الصابئة المندائيين في الناصرية و يقال أن الكثيرمن عوائلهم كانت تأتمن على اموالها و ممتلكاتها الذهبية عند الحاج رشيد غنّاوي في أيام عيد رأس السنة المندائية و المعروف لدى العامة بعيد (الكرصة) و الذي يبدأمن مغيب الشمس الى صباح اليوم الثاني من السنة المندائية الجديدة حيث يلزم كل صابئي داره و لا يجوز في هذه الفترة مس اي شيء غير طاهر كما لا يشرب و لايأكل الا مما أختزنه في داره قبل مساء أول يوم الكرصة و لا يجوز له أن يلتقي بغير الصابئي و لذلك كان اللصوص يتحينّون الفرصة لسرقة دورالمندائيين و بالاخص الاثرياء منهم في فترة العيد. و من المعلوم بان الكثير من الصابئة المندائيين كانوا يمتهنون و الى الان مهنة صياغة الذهب و الفضة. ويقال ان محلة الصابئة في الناصرية حزنت كثيرا عندما سمعت بخبر وفاة الحاج رشيد غنّاوي الى درجة أن أقاموا عزاء خاصا له و عندها أشتهر بأنه الحاج رشيد التتنجي ( اللي الصبّه سووله عزه). و(7).
و هكذا تمّ زواج الشاب محمد جواد القمّاش من بنت الحاج رشيد غنّاوي و ليدوم هذا الزواج حتى وفاته اواسط السبعينيات و يرزق منها بأربعة أبناء و اربع بنات و لتستقر العائلة في بيت في محلة الجامع في الناصرية.
أشتهر الحاج محمد جواد في الناصرية بصوته الشجي عند قراءته للمأتم الحسيني و بفضل أطلاعه الادبي و تربيته في بيئة النجف كان قارئا حسينيا و يخرج (رادودا) مع موكب الناصرية كل عام الى النجف لأداء الشعائر الحسينية في عاشوراء و برغم ذلك فلم يعرف بميول دينية و انما كان اتجاهه وطنيا بحتا تمثل بتعاطفه الشديد مع جماعة الاهالي و الحزب الوطني الديمقراطي انذاك و رموزه من امثال جعفر ابو التمن و كامل الجادرجي و قد كان لجماعة الاهالي حضور مؤثر جدا في الساحة السياسية للناصرية وكانت مكتبة الاهالي للحاج جبر غفّوري مقرا لاجتماعات الحزب في الناصرية. و مع ميلع الى التيار اليساري الذي بدأ بالظهور في الناصرية علي يد يوسف سلمان يوسف (فهد) في أوائل الثلاثينيات الا انه لم ينتم الى الحزب الشيوعي العراقي و ظلّت ارائه السياسية قريبة من الوطني الديمقراطي.
و من الجدير بالذكر ان دكان الحاج محمد جواد القمّاش كان ملتقى أدبيا يجمعه مع الكثير من أصدقاءه انذاك من امثال الشاعر النجفي سعيد كمال الدين (ت 1972) و قد عيّن فترة قاضيا في الناصرية في ثلاثينيات القرن الماضي و كذلك المرحوم الدكتور كاظم السعيدي الاستاذ المساعد في كلية الادارة و الاقتصاد لاحقا و شقيق الشيوعي المخضرم السيد نصيف جاسم السعيدي (و يذكر ان الدكتور كاظم السعيدي كان في الحلقات الشيوعية التنظمية الاولى في الناصرية التي اقامها فهد في بداية الثلاثينيات حيث كانوا يتخذون من معمل الثلج و المعروف بمكينة طوبيّة مقرا لاجتماعاتهم) و كذلك الدكتور عبد الجبّار الخفاجي (من أهالي مدينة الشطرة)(8) و الدكتور عبد الغني الدلّي ( الذي أصبح عضوا في البرلمان و وزيرا للزراعة في العهد الملكي واول سفير للعراق في المغرب و كان ايضا محاضرا في جامعة لندن هو من اهالي سوق الشيوخ و قد توفي حديثا في 2010 في المغرب). كان كذلك من أقرب أصدقاء الحاج محمد جواد السيد جواد خشان الصافي الموسوي (ت 1955 و هو جدي لأبي) و الحاج طالب الحاج فليّح الشخصية الادبية المعروفة في الناصرية و شقيق المحامي الحاج غالب الحاج فليّح.
سكن الحاج محمد جواد القمّاش مع عائلته في دربونة في محلة الجامع وبجوار بيت أم خضوري و هي سيدة يهودية كانت تبيع الاقمشة و كذلك بيت مريم بنت شعبون و الذي يعرف ببيت ام مجّوده و كذلك بيت الشقيقين طه و ياسين (و من الطرائف ان اسماء الاخوين كانت تذكر دائما معا للتعريف بهما و سرت هذه التسمية بين ابناء المدينة) و كذلك بيت سيد جواد خشان و بيت السيد محمد رضا المركزي و كذلك بيت السيد جواد والد كل من السيد حازم جواد(9) ( القيادي في حزب البعث لاحقا و من قادة انقلاب شباط 1963) و الشاعرالمرحوم كاظم جواد (و قد تزوّج من أديبة فلسطينية هي سلافة حجاوي و هي من نابلس و لكنها قدمت الى العراق مع والدها في اوائل الخمسينيات) و السفير ناظم جواد و الطيار حامد جواد و المعلمة السيدة نظيمة جواد (و كانت مديرة روضة الاندلس في بغداد والتي كنت طالبا فيها في سبعينيات القرن الماضي).
كان الحاج محمد جواد القمّاش ميسور الحال في أربعينيات القرن الماضي الا انه خسر صفقة تجارية في عام 1950 تقريبا أدت الى تدهور حالته الاقتصادية بصورة حادة جدا مما اضطره الى بيع جميع ممتلكاته من ضمنها أثاثه المنزلي لسد خسارته و من ثم انتقاله الى بغداد مع عائلته المكونة من زوجته و سبعة أبناء ليبدأ من جديد في تجارة بيع الاقمشة و يسـتأجروا بيتا صغيرا في دربونة الصفافير في بغداد (ساحة الوثبة حاليا) عام 1951 لمدة سنة تقريبا ثم الانتقال الى بيت قرب جامع داود ابو التمن في شارع الجمهورية حاليا و قد بقي في ذلك البيت لمدة عامين و بعدها انتقل بالقرب من بيت الدكتور مصطفى جواد في محلة الهيتاويين (و بقي لمدة خمسة اعوام في هذا المنزل)و أخيرا أستأجر شقة في شارع الكفاح مطلة على ساحة النهضة (و كانت تملكها المرحومة الحاجة أم عدنان الخياط و قد كانت صديقة مقربة جدا لزوجته الحاجة نعيمة رشيد التتنجي ) وفي عام 1965 تحصل ابنته المعلمة سعاد على قطعة ارض عقارية في محلة الداوودي بالقرب من شارع 14 رمضان في بغداد و أنتقلت العائلة جميعا الى تلك الدار و بقي فيها حتى وافاه الاجل عام 1976 و بعدها بسبع سنوات توفيت زوجته الحاجة نعيمة رشيد التتنجي عام 1983.
في هذا البيت في محلة الداوودي عشت طفولتي بين أحضان عائلة كبيرة جدا (حيث كان يسكن 11 شخص تقريبا في هذا المنزل). لا تمتلك ذاكرتي سوى القليل عن الحاج محمد جواد القمّاش. اتذكره بلباسه الجنوبي و عقاله و(يشماغه الاسود) حيث لم يلبس القميص و البنطلون يوما. أتذكر عندما كان يصحبني أنا و أخي صباحا الى محل أبو ياس و يشتري لنا الحلوى و صور لاعبي المنتخب العراقي في السبعينيات و نعود مشيأ بمحاذاة سكة القطار ننتظر قدومه صباحا. كان الحاج محمد جواد مرزا علي صالح حيدر جدي لأمي و هكذا كانت رحلته من النجف الى الناصرية ثم الى بغداد حافلة بالحكايات و لكن للاسف لم يحفظ منها سوى ما كتبته هنا و يعود الفضل الى ذاكرة أمي. و ختاما أقول لك عذرا ايها العزيز فأني لم أعرفك الا متأخرا جدا.
: الهوامش
1.لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث- الجزء الرابع. الدكتور علي الوردي
2. والدتي و خالي الدكتور عقيل الناصري ينفون مشاركته في حركة الجهاد أما خالي السيد غانم جواد فيميل الى مشاركته فيها حيث يقول ان والده كان يذكر تفاصيل دقيقة عن معركة الشعيبة لهم و كأنه كان مشاركا فيها و كذلك تميل خالتي بتول الى هذا الرأي أيضا. و من الطريف في هذا الأمر أن والدي و عندما كنت اتناقش مع امي حول هذه المسألة أجاب بأن السيد محمد جواد قد شارك في حركة الجهاد و عندما سألناه كيف عرف ذلك أستدار الى أمي و أجابها بعفويته المعتادة...( جا السيد الحبوبي ماخذ ابوج (أبوك) ونس (بكسر الواو و النون ) ويّاه من النجف للناصرية لو ماخذه يحارب)
3.كانت له أختان السيدة صفيّة و السيدة رباب و هم أبناء السيد كريم الكيزروني من النجف و قد تزوج والدته بعد سنوات من وفاة والده. تزوجت السيدة صفية من السيد حسين الهاشمي و ابناؤها الدكتور محمد الهاشمي (كان مدير عام في وزارة التخطيط) و جلال الهاشمي (صاحب مكوى بلودان في شارع 14 رمضان في بغداد في سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي) و أنور الهاشمي (ظابط طيار) و كذلك هاشم الهاشمي و عماد و عبد الهادي الهاشمي (كانوا تجار في الشورجة) و من البنات نورية و دولة و منى(و منى هي زوجة السيد أحمد النوّاس أحد ابناء الناصرية المعروفي و من أقرباء ناجي طالب) و الكتورة راجحة والمدرسة فائزة و الصيدلانية كوكب و كوثر و التي كانت على الاغلب مدرسة ايضا. و رباب كانت متزوجة من السيد كريم و كان كاتب عرائض مشهور في الناصرية انذاك و اولاده المعلم احسان و عبدالرحمن (الدكتور الاستاذ في كلية الادارة و الاقتصاد حاليا) و وليد (استاذ في الطب البيطري و حاليا في كندا ) و منعم الصيدلي و من البنات سهام و أميرة و ثناء. (هذه المعلومات مصدرها والدتي في حديث مسجل في شهر 10 /2012)
4.لم يعرف كثيرا عن خالي عبد الرزاق بسبب قطيعته مع والدي في اوائل الخمسينيات. كانت والدتي تصفه بأنه حاد المزاج لا يميل الى التفاهم و قد أنتقل مع العائلة الى بغداد و بعدها بفترة قصيرة انتهت علاقته بالعائلة حيث ترك المنزل. لم يتزوج و توفي في السبعينيات او الثمانينيات و قد أخبرني خالي السيد حسن محمد جواد في عام 2000 انه و بعد تركه المنزل كان يتردد بين الحين و الاخر الى محلتهم في بغداد و يلتقي بخالي حيث كان صغيرا في ذلك الوقت و في بعض الاحيان يعطيه بعض النقود و يكلفه بأن يحمل سلامه الى اخوته و اخواته في المنزل.
5. ووالدة الحاجة نعيمة رشيد كانت الحاجة زكيّة وكان والدها تركماني سنّي المذهب و والدتها فاطمة شيعية من عشائر الاكرع. و من الجدير بالذكر ان الحاج رشيد التتنجي قد تزوج قبل مجيئه الى الناصرية في بغداد و عنده بنت من زواجه الاول تدعى فاطمة و أبناؤها علي (تزوج علي من السيدة ليلى بنت السيد محمد رشيد الخياط) و محسن و عدنان وقد بقوا في بغداد و كانت علاقة مستمرة لعائلتي انذاك معهم.
6. و المعروف بالحاج مجيد رشيد العلوجي وكان له عدة بنات و ابناء قد تزوج خالي السيد كاظم محمد جواد من ابنته السيدة خولة.
7. و قد تزوج السيد محمد رشيد مرتين الاول من سيدة علوية رزق منها بابنته ليلى و تزوج مرة ثانية من السيدة نعيمة و كانت كردية الاصل و له منها عادل و مهند و حيدر و من البنات رجاء و هناء (و هناء حاليا في لندن) . أما السيد حميد رشيد تزوج من الناصرية و له ابناء رياض و فتاح و ضياء و لديهم محلات تصليح كهربائيات السيارات في الناصرية.
8. الدكتور عبد الجبار الخفاجي هو عم الدكتور عزيز جواد هادي الخفاجي الاستاذ في كلية القانون في جامعة بغداد و الذي تزوّج من خالتي الدكتورة بلفيس محمد جواد الاستاذة في كلية العلوم السياسية في بغداد.
9. و قد ذكر لي خالي حسن محمد جواد في حديث دار عام 2000 بان لحازم جواد فضلا في انقاذ خالي عبدالرزاق من الموت بعد انقلاب شباط عام 1963 حيث يقال بان الحرس القومي قد القى القبض على خالي و كاد أن يعدم لكونه شيوعيا الا انه ذكر لهم بأنه صديق حازم جواد و يقال بأنهم قد اتصلوا بحازم جواد و من ثم أفرج عنه
Subscribe to:
Posts (Atom)