
يفتح عينيه ليجد السماء خلعت ثوبها الاسود المثقوب بالنجوم وارتدت حلة زرقاء، يقفز من فراشه مسرعا لينزل الدرج ثملؤه لهفة و شوق لما هو ات، يسرع باتجاه المطبخ و يرتمي في احضان جدته، يسمع هسيس الهواء في صدرها المنخور بالتبغ المحلي، تفترش (جودليتها) يجلس بجنبها و هي تحضر شاي الصباح المهيل على (چولتها) و يسمعها تردد بألم و حسرة ... تگلي المسعدة الغرشة بطليها چا لو هاجت نار گلبي أبيش أطفيها،
ينتظر جده بفارغ الصبر لينتهي من ارتداء عقاله و شماغه بلونيه المتقاطعين الابيض و الاسود، ينضم اخوه اليه في رحلة الانتظار هذه، يقبلهما الجد و يمسك بيد كل منهما بيديه، يحس بخشونة يد جده المنحوتة بالشقوق و هي تمسك بيده الطرية التي لم تطأ معترك الحياة بعد، تعتريهما غبطة عندما يمرون عبر أزقة حيهم الهادىء في ذلك الصباح التموزي الدافىء.
يصل الى دكان ابو ياس الرجل العجوز صديق جده ، تتفتق اساريره فرحا عندما يناولهما (جكليت و حامض حلو)،بعد احاديث قصيرة يشتري الجد لهما بسكت (بسكولاتة ) و نستلة (ابو العبد) و لا تكتمل نشوتهما الا بعد ان ياخذ كل منهما فطعة من الكرتون توزعت عليها و بشكل متساو صور لا عبي المنتخب الوطني، ذخيرتهما للعبة ( التصاوير) فور العودة الى البيت، ما زال يتذكر بوضوح تلك الصور الضارب لونها على الزرقة الفاتحة: حسن فرحان، فيصل عزيز، هادي احمد، علاء أحمد، دگلص عزيز، محمد طبرة، كاظم وعل، فلاح حسن.
يتوجهان بعدها مع الجد الى سوق الكبيسي نحو فرن الصمون الحجري. كغيرهم من سكان بغداد لا يستذوقون صمون الاعاشة (الاوتوماتيكي). يبدا بالتعرق بانتظارتلك العجائن الصغيرة و هي تنتفخ و تحمـرّ تحت وطأة النار المنبعثة من المشعل النفطي في ذلك الكهف الحجري المتواري عميقا في جوف الحائط، يتلذذ بالتقاط اول الصمونات الخارجة من جحيم الفرن، يلتقطها بكلتي يديه حيث تأخذ بالتقلب كسمكة تتقافز في شبكة صياد من شدة سخونتها حتى يضعها في سلة جده.
عند العودة يسلكان طريق الشارع الموازي لسكة القطار، يسيرون ببطء بجنب السكة المرتفعة قليلا و يتوجه بنظره بعيدا نحو الافق بانتظار قدومه، يسحب يديه من قبضة جده و يسرع نحوالقضبان المددة ينحني بوجهه الى الارض، يلامس خده حديد السكة الناعم، ينتظر سماع ازيز العربات القادمة ، ينتظر الشارة بنشوة عارمة، يتراءى له من بعيد كثعبان يتلوى ببطء، يسمع فحيح عرباته المجنزرة، يخرج هو و اخيه كل منهم قطعة (عشر فلوس)يضعانها على القضبان بانتظار مرور القطار فوقهما.
يتراجعان نحو الجد الواقف الى البعيد قليلا، يرقبان بفضول مرور القطار، يقبل ببطء و غنج، ابواب العربات مفتحة ووجوه قاتمة تقبع خلف الشبابيك، جنود يقفون عند ابواب الفارگونات المكتظة، بدا قريبا جدا الان، مر فوق قطعهم النقدية، اسرع هو و اخيه نحو السكة مرة اخرى، القى نظرة اخيرة على القطار المحمل بالاسرار و هو يختفي شيئا فشيئا لتبتلعه احياء المدينة الصاخبة، يتفحص ما الت اليه قطعته المعدنية، يمرر اصبعه على وجهها، ملساء كخد طفل رضيع، تتملكه فرحة غامرة... يلتفت بوجهه يسارا نحو جده، يرتطم وجهه بزجاجة ملساء هي الاخرى، تتوالى من خلالها حقول خضراء ممتدة و بحيرات ماء ذي زرقة صافية و بيوت متناثرة هنا و هناك، امامه تجلس فتاة شقراء بتنورة قصيرة تكشف عن ساقين بيضاويين كثلج ناصع، اصابعها تتنقل بانسياب على لوحة مفاتيح حاسوبها كمن يعزف قطعة موسيقية على الة بيانو، بجانب الحاسوب قدح قهوة من الورق المقوى كتب عليه (ستاربكس). التفت يمينا، رأى عجوز و زوجها مع ابنتهما و بنتها يتسامرون بصوت هادىء. أرجع رأسه ليستند على زجاج النافذة و غاب بصره في الحقول الخضراء النضرة و اللا متناهية، عاد الى البيت مغمورا بما تضم سلة الجد مما تتوق له نفسه، فتحها لم يجد تصاويره و الصمون الحجري الساخن و نستلة( ابو العبد)، انما عشرة أعوام من التسكع على أرصفة المنافي، كتاب طبي، صحيفة ليست بلغته و أوراق من دائرة الهجرة تقول... سنسمح لك مؤقتا بالبقاء هنا و يمنع عليك ان تعود الى ( هناك)... لن اعود الى (تصاويري) و سلة جدي و صدر جدتي المنخور. أخرج الصحيفة و أخذ يبحث عن أي خبر من (هناك)... جسر يتفجر ويتهدم و جدار عازل ينتصب ووو.... أخذ يدندن بصوت خافت..
ضلعي أحسه المنكسر
موش الجسر، يحزام دجله يلالي حدره الماي
ويوج العصر
يمصافحة صوبين ما مل الرصافه الكرخ
من وكت الزغر
أنتبهت الفتاة الجالسة امامه لهذيانه، سكت و عاد لهدوئه و أمال رأسه نحو النافذة وبدأ يجتر الوطن و ما تبقى من فتات المنفى و عادت هي تنقر على حاسوبها لا تأبه لتصاويره و صمونه و صدر جدته المنخور. أغمض عينيه و سافر بعيدا نحو الدفء و امتطى صهوة القطار المغادر الى المحطة العالمية في (العلاوي)، ألقى نظرة اخيرة على الساقين البيضاويين أمامه و الحقول الخضراء عبر الزجاج و عاد (يون)
يا ريل طلعوا دغش
و العشگ چذابي
دگ بيه طول العمر ما يطفه عطابي
نتوالف ويه الدهر
ترابك ترابي
و هودر هواهم ولك حدر السنابل گطه.